كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى ثابت عن أنس قال: حرمت علينا الخمر يوم حرّمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وروي عنه أنّه سئل عن الأشربة، فقال: حرّمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فكان عنده أنّ ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر.
وروي عن عمر أنه قال: إنّ الخمر حرّمت وهي من خمسة أشياء من: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا».
وروي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب».
ولقد أطلنا بذكر هذه الآثار لمعرفة منشأ الخلاف، والحنفية يقولون فيما خالف مذهبهم من هذه الأخبار: إنها لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة، وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا في التسمية، والكلام إنما هو في الحكم، والمسلمون جميعا بحمد اللّه متفقون في الحكم من حيث الحرمة إلا شيئا يروى عن أبي حنيفة في حل القليل من غير الأصناف الأربعة، وهو ما لم يبلغ حدّ الإسكار، وقد نص بعض المتأخرين من الحنفية على أنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها ولا الفتوى، حتى في خاصة النفس، وأنّ الحكم أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام.
غير أنّه يتبع الكلام في الحرمة كلام في الأحكام الأخرى كالنجاسة والحدّ، فمن يرى أنّ هذه الأشياء خمر، وأنها يشملها اسم الخمر يقول: إنها نجسة بقوله تعالى: {رِجْسٌ} وأنّ فيها الحد الذي ثبت بدليله المعروف في الفقه.
ومن يرى أنها حرام من طريق القياس لإسكارها. هل يرى أنّ النجاسة ووجوب الحد ثبت للخمر للإسكار ومخامرة العقل، فينقل الحكم، وهو النجاسة ووجوب الحد، كما نقل الحرمة بالقياس للإسكار، أم هو يرى أنّ الذي ثبت بعلة الإسكار إنما هو الحرمة فقط، فلا يعدي النجاسة ووجوب الحد إلى غير ماء العنب والأشربة المعدودة عنده.
وهل يورث الخلاف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط الحد؟ ذلك يجب الرجوع فيه إلى الفقه وقواعده، فإنّ ذلك لا ارتباط له بالآية التي معنا.
والميسر: أصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار في توزيعه. وقد بيّن ذلك عند تفسير قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].
وقد روي عن الإمام علي أنّه الشطرنج.
وعن عثمان وجماعة أنّه النرد، وقال جماعة من أهل العلم: القمار كله من الميسر. ويراد منه: تمليك المال بالمخاطرة، فكل مخاطرة بالمال قمار، وهو من الميسر، وهو حرام.
{رِجْسٌ} أي قذر تعافه العقول. وعن الزجاج: الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح، وقد يطلق الرجس على النجس.
{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} من تسويله وتزيينه. {فَاجْتَنِبُوهُ} أي اجتنبوا الرجس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
ولقد شدد اللّه في الآية الكريمة أمر الخمر والميسر تشديدا يصرف النفوس عنه إلى غير عود، فصدّرت الجملة (بإنما) وقرنا بالأصنام والأزلام وهما ما هما من الشناعة، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، ثم أمر باجتنابهما، وأضاف الاجتناب إلى أعيانهما، حتى كأنهم مما يفرّ منهما، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، فهل مع هذا كله يعود الناس إليهما، إن ذلك لحسرة؟! ولقد أردف اللّه ذلك ببيان المضار التي تنجم من جراء الخمر والميسر، عسى أن يكون في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع فقال: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي بسبب تعاطيهما، أما الخمر فإنّها تذهب العقل، ومتى ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال المجانين، ولو كان مجنونا لغفر الناس له ما يكون منه من أذى، فيتأذى الناس منه ويبغضونه لما يلحقهم من شره، ولا عذر له، فيغرس في قلوبهم الغل والضغينة، وما جر عليه ذلك إلا الخمر. وأما الميسر فإنه في حال انشغاله بالقمار يكون فاقد الإحساس والشعور، لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعا في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسرا أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقدا وحفيظة، وربما أداه ذلك إلى قتل من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة، وإن لم تمكنه رجع إلى نفسه بالقتل، أو بالهم والاكتئاب، وإن صادفه الحظ وكان رابحا امتلأ قلب صاحبه عليه غلا وضغينة. والحوادث منا في السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد. دع ما يتخذه كل المتقامرين من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم، وكثيرا ما أودت تلك الوسائل بأصحابها.
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن الأضرار التي تعود على المتقامرين والمخمورين في الدنيا بيّن أنّ ضررهما ليس قاصرا على الدنيا فقط، بل هما ضارّان بالدين أيضا، فإنّهما يمنعان من الذكر ومن الصلاة، ومتى منعا من الذكر والصلاة فقد صار الشخص فاجرا، لا يرقب في اللّه إلا ولا ذمة، فهو مستهتر، لا يبالي ما يرتكب من الآثام، فماذا يمنعه، وقد بعد من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ في هذه الجملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية، وأنّ الأمر من الشدة والهول بحيث لا يمنعه إلا انتظار الجواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حين سمعها، وقد كان طلب البيان الشافي بعد آية البقرة قولة الخائف الوجل: انتهينا يا رب. ولقد سبق القول في سورة البقرة أن آية الخمر [219] التي فيها، كانت أول ما نزل في الخمر، ثم نزلت آية النساء، ثم هذه.
وأخرج الربيع أنه لما نزلت آية البقرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.
قال اللّه تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)} أمر بالطاعة في كل ما جاء عن اللّه والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ويدخل فيه ما جاء في الخمر والميسر دخولا أوليا، وتحذير عن المخالفة، فإنّها موقعة في المهالك فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقد بلّغكم فانقطعت حجتكم، وانسد أمامكم سبيل الاعتذار، ولم يعد لكم مطمع في التعلّة، وإن ذلك لتهديد شديد.
قال اللّه تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} روي عن ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك وغيرهم في سبب نزول هذه الآية: أنه لما حرّمت الخمر قالت الصحابة: كيف بمن ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقد فهم عمر بن الخطاب هذا المعنى من الآية. وقد أراد أن يقيم الحد على قدامة بن مظعون حين شهد عليه الشهود بأنه شربها. روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده.
فقال قدامة: ليس لك ذلك، لأن اللّه يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرّم اللّه.
والطعم يطلق في اللغة على التذوق والتلذذ بما يؤكل ويشرب وهو هنا بهذا المعنى.
وبحسب ما ذكرنا من سبب النزول يكون معنى الآية: ليس على من آمن باللّه واتقاه وعمل صالحا جناح فيما تناوله من المحرمات قبل تحريمها إذا ما اتقى اللّه في محارمه، وآمن به، وعمل صالحا، ثم استمر على هذه التقوى وهذا الإيمان في المستقبل، ثم اتقى اللّه فيما أحل له، وأحسن في استعماله.
ومن هذا الذي قلنا تعرف معنى التقوى والإيمان المكرّرين في الآية، وتعرف معنى الإحسان الذي زيد فيها، وهو وجه من وجوه كثيرة أوردها المفسّرون لبيان أنه لا تكرار في الآية، ولنذكر بعضا منها، فقد قال بعضهم: إن التقوى والإيمان الأولين يراد بهما حصول أصل التقوى، وأصل الإيمان، والثانيين يراد منهما الثبات والدوام، والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
وذهب بعضهم إلى أن التقوى الأولى تقوى المحرمات قبل نزول هذه الآية.
والثانية: اتقاء الخمر والميسر، والثالثة اتقاء ما يحدث بعد هذه الآية.
وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى الأولى اتقاء الكفر، والثانية اتقاء الكبائر، والثالثة اتقاء الصغائر.
وذهب بعضهم إلى أنّ المراد من هذا التأكيد في الحثّ على الإيمان والتقوى.
يبقى أن يقال: كيف شرط اللّه في رفع الجناح عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى مع أنّ الجناح مرفوع عن المباح من المطعومات حتى عن الكافرين، ولكن متى عرف أن ذلك كان جوابا عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم على ما تناولوا من المحرمات قبل التحريم، وأن الآية بصدد طمأنة السائل على أصحابه، وأنهم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأنّها مثل قول اللّه تعالى في شأن من مات قبل الصلاة إلى الكعبة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] متى عرف ذلك ظهرت فائدة الشرط وتذييل الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} للإشادة بشأن الإحسان في ذاته، وشأن هؤلاء الذين نزلت الآية فيهم.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)} تقدّم الكلام غير مرة في معنى الابتلاء، وأنّ المراد منه في مثل هذا المقام أن يعامل العباد معاملة المبتلي المختبر، ليتعرف حالهم وهل يثبتون على المحن والشدائد أو لا يثبتون.
أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل أنها نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم اللّه بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم، وطعنا، برماحهم، وذلك قوله تعالى: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية، وخص الأيدي والرماح، لأن الصيد يكون بهما غالبا.
والتنكير في قوله تعالى: {بِشَيْءٍ} للتحقير، وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير تنبيها على أنّ من لم يثبت أمام هذه الأشياء التافهة كيف يثبت عند شدائد المحن، ويمكن أن يقال: إنّ التنوين للتعظيم، باعتبار جزاء الاعتداء عليه فإنّه عظيم، و(من) في قوله: مِنَ الصَّيْدِ للتبعيض، إما باعتبار أن المراد صيد البر لا صيد البحر، أو صيد الحرم دون صيد الحل.
لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته حاصلا منهم فيما لا يزال فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فمن تجاوز حدّ اللّه في الصيد بعد هذا التنبيه فله عذاب أليم، لأنّ المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة، والمراد بالعذاب عذاب الآخرة، وقيل: بل وعذاب الدنيا، فقد روي عن ابن عباس. قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا، ويسلب ثيابه.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} النهي عن القتل يدلّ على تحريم إزهاق روح الصيد مطلقا، سواء كان من طريق الفعل أو من طريق التسبب، كالإشارة والدلالة مثلا، ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسالم لبعض أصحابه: «هل أشرتم، هل دللتم»، قالوا: لا. قال: «إذن فكلوا». فدل هذا على أنّ للإشارة والدلالة مدخلا في التحريم، وأنّهما مما يتناوله النهي في قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} فكان النهي متناولا للقتل من طريق المباشرة والتسبب. والمراد بالصيد المصيد، وقد اختلف في المراد بمدلوله، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول، وخصّه بعضهم بالمأكول، وبالأوّل قال الحنفية، وبالثاني قال الشافعية، وانبنى على هذا الخلاف أن من قتل سبعا وهو محرم فهل يجب عليه الجزاء أو لا يجب، قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: لا يجب.